تجربـــــــــة القتــــــــــال الحضــــــــري فــــــــــي مدينـــــــــــة غروزنــــــــي 1994-1996 (الحلقة 2)
فقط بعد ست سنوات من تجربتهم الكارثية في أفغانستان ، وجد الروس أنفسهم من جديد يحاربون مقاتلين إسلاميين تقليديين في منطقة مساحتها نحو ستة ألف ميل مربع . الشيشان كانت تعادل في حجمها واحد من أربعون من حجم أفغانستان ، مع تعداد سكاني لنحو ثلاثة أرباع مليون حسب إحصاء العام 1992 . الهجوم الروسي على العاصمة غروزني Grozny كان واحداً من أكبر العمليات الحضرية منذ الحرب العالمية الثانية الذي أظهر أيضاً إذلالاً هائلاً للروس ، أسوأ من ذلك المتحقق في أفغانستان خلال الثمانينات ، وأسوأ من ذلك الناتج عن غزو فنلندا العام 1940 . أعداد صغيرة من الطائرات الروسية بدأت بقصف غروزني في وقت مبكر من ديسمبر 1994 ، ليبدأ بعد ذلك الهجوم البري بتاريخ 11 ديسمبر (الهجوم الفعلي المنسق على المدينة بدأ في بداية شهر يناير 1995) ، وتدخل قوات أرضية روسية تعدادها نحو ستون ألف جندي الأراضي الشيشانية Chechnya . المدافعون الشيشانيون الذين بلغ تعدادهم نحو خمسة عشر ألف مقاتل كانوا على علم مسبق بتحركات القوات الروسية ، وانتشروا في التلال المجاورة التي كانت في معظمها غير متأثرة بالهجمات الجوية اليومية ، وأخذوا في أطلاق النار على العربات الروسية المتقدمة في طريقها إلى غروزني .
جدلياً ، الجيش الروسي كان لديه تجربة ناضجة بالقتال الحضري مقارنة بأي قوة حديثة أخرى في العالم . القوات السوفيتية قهرت وأخضعت عشرات المدن أثناء الحرب العالمية الثانية . بعد ذلك ، هم نفذوا عمليات ناجحة في شرق برلين East Berlin العام 1953 ، وبودابست Budapest العام 1956 ، وبراغ Prague العام 1968 ، وكابول Kabul العام 1979 . لكن رغم جميع هذه التجارب ، القوات الروسية لم تؤدي مهامها بشكل جيد في الشيشان . وبحلول شهر سبتمبر من 1996 ، وجد الجيش الروسي نفسه متورطاً في واحدة من أكثر المواقف الكارثية التي يمكن مواجهتها ، وعانت قواته في النهاية من الهزيمة والاندحار .
كقاعدة عامة ، أفضل إجراء للسيطرة على مدينة مدافع عنها بعناية ، أن يتم إحاطتها وإغلاقها بالكامل أولاً ، ثم الاستيلاء على المباني الكبيرة على الأطراف مثل المكاتب والمصانع الحكومية . بعد ذلك يتم التحرك نحو مركز المدينة بشكل منهجي ومنظم للسيطرة على المناطق الواحدة تلو الأخرى . لكن الهجوم الروسي على غروزني جاء من محورين فقط ، بشكل رئيس بسبب قلة القوات الكافية . في الحقيقة ، أخفق الروس في تطويق وإحاطة المدينة خلال كامل شهر يناير ، مما سمح للقائد الشيشاني "دوداييف" Dudayev تعزيز دفاعاته وتأمين استحكاماته . في منتصف شهر فبراير استخدم دوداييف الطرف الجنوبي من المدينة الذي كان لا يزال مفتوحاً لتنفيذ تراجع منظم orderly retreat إلى الجبال . وبعد أن أخفقوا في السيطرة على طرق مهمة تأوي مداخل ومخارج المدينة ، ارتكب الروس خطأ آخر شديد ، تمثل بالتوجه مباشرة إلى مركز مدينة غروزني ، حيث تحركت قواتهم المدرعة ودباباتهم على طول الطرق والشوارع العريضة بموازاة المباني الضخمة والمرتفعة . كانت أرتال دبابتهم غير مدعومة unsupported أو مسندة من قبل المشاة ، بحيث كان كل منها عملياً غير قادر على مساعدة وإغاثة الآخر ، فكانت النتائج كارثية بشكل متوقع .
العمليات في المدن والتضاريس الحضرية urban operations لا يعتبر خياراً سهلاً لأي قوة عسكريه . فلخوض هذا النوع من المعارك ، يستدعي الأمر متطلبات كثيرة من خدمات الإمداد والتموين logistics والقوة البشرية والدعم الناري . تكتيكات القتال السوفيتية في التضاريس الحضرية صممت ووضعت لغرض تتميم العمليات الهجومية كبيرة الحجم وعاليه السرعة على أراضي دول منظومة حلف شمال الأطلسي . وعليه فان المدن غير المحصنة دفاعياً سوف تكون خاضعة للسيطرة مع بداية التقدم والزحف . أما المدن التي تعد دفاعاتها بشكل جيد فإنه يجب إحاطتها أو تجاهلها وتجنبها bypassed .. المنظرون السوفييت كانوا يعتقدون أن جنود خصومهم في الغرب لا يمتلكون الرغبة في المشاركة في تدمير مدنهم الخاصة ، وإنهم سوف يفضلون الإعلان عن استسلام المدينة بدلا من رؤيتها تتحول إلى حطام . أما اليوم فقد تغير كل شيء ، فالواقع العسكري والسياسي في الزمن الحالي لم يعد يتلاءم وينسجم مع الفرضيات السوفيتية Soviet assumptions السابقة للنزاع أو القتال في التضاريس المدنية ، حيث يمكن لقوى غير نظاميه إلحاق خسائر كبيرة وغير مقبولة ، تصل لحد دحر وهزيمة القوة المهاجمة .
التجربة الروسية القتالية في العاصمة الشيشانية "غروزني" Grozny ، التي اقتحمتها قواتهم في بداية شهر يناير 1995 ، أدت إلى تنقيح وتعديل كبير في تكتيكات القتال الروسية في المدن . وعلى الرغم من أن الهجوم الروسي التمهيدي حمل صفة الكارثة debacle بما تعنيه الكلمة (المدينة كانت عصية لحد كبير على الاختراق) ، إلا أن الجيش الروسي استطاع في نهاية الأمر السيطرة على المدينة والاستيلاء على مراكزها . منذ ذلك الحين عمد الجيش الروسي على إدخال تحسينات مهمة على أدائه القتالي والتنظيمي organized performance ، خصوصاً بعد مراجعة العبر والدروس المستخلصة من تلك المعركة وتحديث وسائله وتكتيكاته في القتال المدني . فحتى بعد حرب أفغانستان ، أنجز الجيش الروسي تحضيرات واستعدادات محدودة لمكافحة قوى التمرد ، خصوصاً في المدن (باستثناء وحدات "سبتناز" Spetsnaz الخاصة التي كانت أكثر اهتماماً بهذا الجانب في تدريباتها) . وهكذا ، المعركة الحضرية خلال الثمانينات لم تعد محط اهتمام التمارين المعمقة والمكرسة للقوات الروسية ، وأهملت المناهج الدراسية العسكرية القضية تقريباً بشكل كلي .
معظم الجنود الروس تلقوا أقل من ست ساعات تدريب للحرب الحضرية . آخر وحدة عسكرية روسية باقية ومتخصصة في القتال الحضري كانت قَد سلمت إلى وزارة الداخلية في فبراير 1994 ، عند ذلك أغلب ضباطها تقدموا باستقالاتهم . أغلق الجيش مدارس تدريب وحدات القناصة منذ فترة طويلة توفيراً للنفقات . الجيش الروسي مثله مثل سابقه الجيش السوفيتي ، واصل تدريبه على احتمالات حرب كبيرة وموسعة تشن ضد قوات منظمة حلف شمال الأطلسي ، لكن ليس قتالاً حضرياً . التحضير المتساهل للهجوم الروسي عكسه كبرياء وزير الدفاع آنذاك الجنرال "بافل غراشيف" Pavel Grachev (حصل في العام 1988 على وسام بطل الاتحاد السوفيتي الذهبي ، وهو وزير الدفاع الروسي للفترة 1992-1996) ، الذي افتخر في وقت سابق من ذلك الشهر بأنه يستطيع الاستيلاء على غروزني في ساعتين بفوج مظليين واحد airborne regiment . الروس الذين توجهوا إلى غروزني توقعوا الاستيلاء على مركز المدينة وتنصيب حكومة موالية بخطوة سريعة . المعدات والتجهيزات التقنية الروسية التي استخدمت كانت أقل كفاءة ، خصوصاً مع إدراك القيادة العسكرية الروسية بقدرات خصومهم المحدودة .
يتبــــع ..
بكل بساطة
ردحذفالروس توقعوا استسلاما لا حربا استنادا لمبدا عدم رغبة الخصم في دمار مدينته
لذلك دخلوا بشكل غوغائي قائم على الهزيمة النفسية للخصم .