الذخيــــرة الموجهـــــة بدقـــــة .. البدايــــة من فيتنــــــام
تعتبر حرب فيتنام المختبر الأول الحقيقي للذخيرة الموجهة بدقة guided munitions ، فالبداية الصعبة كانت مع القنابل غير الموجهة حرة السقوط ، والتي ساهمت في العديد من الانتصارات خلال الحرب . فهذه الأسلحة التي يطلق عليها اسم "القنابل الحديدية" iron bombs كانت مرعبة عند ارتطامها بالأرض ، كانت قادرة على تمزيق طبلة الأذن وإثارة الخوف والوهن في نفوس أكثر الجنود شجاعة ، واستطاعت شظاياها سحق وتدمير الكثير من المطارات الفيتنامية الشمالية وخطوط السكك الحديدية ، ومستودعات التجهيز ، وشبكة الأنفاق الأرضية ، ومجموعات مقاتلي "الفيتكونغ" Vietcong المختبئين في ظلال وأغطية الغابات . كان تأثير القنابل الصماء Dumb bombs مدمر ، كما شهدت معركة Tet العام 1968 وهجوم عيد الفصح العام 1972 ، ومع ذلك تسببت هذه الأسلحة بحوادث كارثية خلال مراحل عدة من الحرب ، فقد ضلت هذه القنابل طريقها لتضرب مستشفى Hanoi وتقتل 30 فرداً في ديسمبر العام 1972 . وتسببت قنبلة أخرى في مقتل العشرات من الجنود الأمريكان في وسط مرتفعات منطقة تقع في جنوب فيتنام ، الحادث نتج عن سوء الاتصالات الراديوية بين القوات الأرضية والجوية ، حين توجه الطيار بطائرته من الشمال للجنوب بدلاً من المنطقة الشمالية الغربية للمنطقة الجنوبية الغربية .
الإخفاق الآخر الذي واجهته القنابل الصماء يتمثل في العديد من حالات الفشل في إصابة الأهداف المعادية ، إذ بلغت مستويات الخطأ الدائري CEP للطيارين الأمريكان أكثر من 200 م عن نقطة التصويب aim point (انخفضت هذه في السنوات الأخيرة من الحرب لتصل لنحو 100 م فقط) واضطرت الطائرات المهاجمة للعودة من جديد للتصويب على ذات الأهداف المنشود (بلغت نحو 300 غارة خطرة على هدف واحد لتدميره) مع ما حمله هذا الوضع من خطورة ومجازفة . فقد تم رصد الكثير من الطائرات المغيرة بواسطة الرادارات الفيتنامية الشمالية ومن مسافات بعيدة ، فتم استدعاء الطائرات المقاتلة الاعتراضية ، كما أطلقت منظومات الدفاع الجوي الفيتنامية أسلحتها ، وبشكل أجبر الطائرات المهاجمة على إسقاط قنابلها في أماكن قريبة من أهدافها وبشكل غير مؤذي . اضطر الطيارون الأمريكان للهبوط والغطس مرة أخرى بشكل مباشر نحو أهدافهم ، لتتلقفهم النيران الأرضية . لقد تسببت المدافع المضادة للطائرات Anti-aircraft guns التي عادة ما تكون نيرانها دقيقة عند الارتفاعات ما دون 3000 م في معظم الخسائر الجوية الأمريكية . قتل أكثر من 3.200 طيار أمريكي في جنوب شرق آسيا خلال الفترة من 1961 وحتى العام 1972 . كم تم أسر بضعة مئات من الطيارين من قبل قوات فيتنام الشمالية ، وأثبتت العمليات الجوية التقليدية أن القصف الهائل لا يمكن أن يجلب نصراً مؤكداً ، و لم تستطع ثمانية ملايين طن من القنابل سوى إضافة المزيد من الدمار والخراب العشوائي ومقتل الآلاف من القرويين الأبرياء .
في ربيع العام 1972 استخدمت القوات الأمريكية لأول مره خلالعمليات الهجوم الجوية-الأرضية قنابل موجهة ليزرياً ، عندما قامت طائرات F-4D وF-4E مجهزة بأنظمة Martin AVQ-9 وFord AVQ-10 Pave Knife للتعيين الليزري ، بتدمير مجموعة من الأهداف الإستراتيجية بقنابل موجهة ليزرياً LGB من نوع Paveway . لقد كانت الأهداف الرئيسة لتلك الأسلحة هي الجسور الإستراتيجية في فيتنام الشمالية North Vietnam التي قامت بغزو الجنوب الفيتنامي . كان لهذه الجسور أهمية بالغة في إمداد المتمردين الشماليين بالسلاح والذخيرة بالإضافة لدعم هجومهم الآلي . وبعد عدة محاولات فاشلة لتدمير جسر Hoa Thanh الرئيس على النهر الأحمر باستخدام قنابل تقليدية صماء ، فإن ذلك الجهد لم يسفر سوى عن إصابته في أجزاء غير حساسة من هيكله ، ومقابل ذلك خسائر فادحة منيت بها الطائرات المهاجمة (الموقع كان بمثابة مقبرة سيئة السمعة لعشرات الطائرات المقاتلة الأمريكية للسنوات السبع التي سبقت العام 1972) ، لكن هذا الوضع تغير بعد استخدام القنابل الموجهة ليزرياً laser guided bombs للمرة الأولى في 13 مايو من العام 1972 ، فقد استطاعت طائرتان فقط مزودتان بهذا النوع من الأسلحة ، تدمير الجسر وبغارة واحدة فقط . لقد برهنت هذه الأسلحة على الأفضلية التعبوية وهي الدقة العالية في إصابة الهدف ، حيث أن مقدار الخطأ الدائري CEP لهذا القنابل لا يتجاوز 4-5 أمتار . وهكذا أطلقت القنبلة الموجهة ليزرياً Paveway من طائرة F-4 ، في حين كانت إضاءة الهدف تتم من قبل مشغل الأسلحة في المقعد الخلفي لطائرة F-4 أخرى مجهزة بحاويات نظام Pave Knife للتعيين الليزري .
بعد تدمير جسري Paul Doumer وThanhHoa في شهر مايو من العام 1972 ، أعاد سلاح الطيران الأمريكي ترتيب أولويات الهجمات النهارية ضد المناطق المُدافع عنها بعناية وشدة في فيتنام الشمالية ، مع استغلال واستثمار كامل القابليات للقنابل الموجه ليزرياً ، فتم مهاجمة طرق السكك الحديدية وشبكات الطاقة الكهربائية ومستودعات الوقود ومحطات الرادار والبث الإذاعي ومنظومات الدفاع الجوي الصاروخية وغيرها من الأهداف المشكوك بأمرها . لقد وفرت هذه الأسلحة إمكانية العمل في مستويات جيدة من السلامة ، وفي بيئة ومناطق شديدة الخطورة .
مع أن هذه الأسلحة شكلت جزء قليل من ذخيرة وأسلحة جو-أرض التي قامت الطائرات الهجومية strike aircraft لكل من سلاح الطيران والبحرية الأمريكية بإلقائها خلال حرب فيتنام ، إلا أن دقتها الشديدة التي لم يسبقها لها مثيل جعل استخدامها حلم جميع طياري تلك الحقبة ، فمن أصل أكثر من 10.500 قنبلة موجهة ليزرياً ، جرى إطلاقها في كافة أنحاء جنوب شرق آسيا Southeast Asia من تاريخ شهر فبراير العام 1972 وحتى فبراير العام 1973 ، كان هناك 5.107 قنبلة (ما نسبته48.1%) حققت إصابات مباشرة ، وعدد 4.000 قنبلة مع أخطاء دائرية محتملة CEP لنحو 7-8 أمتار . وللمقارنة ، تم تحصيل خطأ دائري خلال الأعوام 1965-1968 ، لأكثر من 150 م ، مع طائرة F-105 تقوم بالقصف وإطلاق قنبلتها غير الموجهة وهي بوضع الغطس dive-bombing ، تجاه أهداف تحت الحماية والدفاع الشديد في فيتنام الشمالية . ومع أن هذه الأسلحة تطلبت أجواء صافية حدد عملياتها حقيقتاً في ساعات النهار ، فإن دقتها في المقابل كانت تعادل 33-50 ضعف القنابل غير الموجهة .
ومع نهاية الحرب ، استطاعت الطائرات الأمريكية المجهزة بهذه القنابل تدمير نحو 104 جسر فيتنامي إستراتيجي ، بالإضافة لتدمير وقطع الطرق السريعة وخطوط السكك الحديدية ، وسمحت دقتها بمهاجمة مواضع المدفعية المضادة للطائرات والدبابات والأهداف النقطوية الأخرى ، فقط مع قنبلة أو قنبلتين من هذا النوع لكل هدف (لم تحقق قنابل Paveway نسبة نجاح 100% خلال الحرب الفيتنامية ، إلا أنه ما من شك أن هذا النوع من القنابل خفض لدرجة كبيرة عدد الطائرات المطلوبة لتدمير أهداف نقطوية شديدة الحماية والتحصين) . وأشارت دراسة مستقلة أجريت بعد الحرب ، للعمليات التي أجريت خلال السنوات 72-1973 ، بأن أكثر من ثلثي القنابل الموجه ليزرياً LGB التي أسقطت من الطائرات الأمريكية ، استطاعت ضرب أهدافها ضمن مسافة 8 أمتار من نقطة التصويب ، وإن هذا التحسين الدراماتيكي المثير في دقة التصويب ، حقق تغييرات في الحرب الجوية أشبه بالتغييرات التي أحدثتها Blitzkrieg (أو الحرب الخاطفة lightning war) في ساحة المعركة خلال الحرب العالمية الثانية .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق